منذ عدة سنوات كنت قد كتبت مسرحية للأطفال تهدف إلى تعليمهم عدة قصص من الكتاب المقدس، و يكون العامل المشترك فيها الحمار. و بهذا تطرقت المسرحية إلى الحمار الذى خلقه الله فى البدء و كان مع آدم فى جنة عدن، و الحمار الذى دخل فلك نوح، و الحمار الذى حمل حطب المحرقة فى قصة ذبح إسحق، و حمارة بلعام، و الحمار الذى كان فى المغارة حيث المزود، و الحمار الذى ركبه السيد المسيح عند دخوله أورشليم.
و خلال هذا الأسبوع تلقيت مكالمة تليفونية من أمين الخدمة يطلب منى أن ألقى الكلمة فى إجتماع الخدام غداً. و حيث أنى لم أكن قد كنت مستعداً إذ أنى سأحل محل المتكلم الرئيسى الذى إعتذر على آخر لحظة، فصليت طالباً أن يرسل الله كلمته إلى الخدام.
و لا أعرف لماذا قفزت مسرحية الحمار إلى ذهنى، و هل لأن الحمار هو حيوان خادم و الكلمة التى سألقيها ستكون فى إجتماع الخدام؟ لا أعرف! كل ما أعرفه أن الله أرسل كلمة لكى أقوم بتحضيرها و أستفيد منها. و حيث إنى قد وجدت بها كلمة منفعة لنفسى، ففكرت أن أشرككم فيها.
أولاً: الحمار و الضعف
أول حمار سنتكلم عنه ليس حماراً كاملاً، بل مجرد فك حمار كان قد وجده شمشون، و يقول عنه الكتاب "و وجد لحي حمار طريّا فمدّ يده واخذه وضرب به الف رجل" (قض 15: 15).
إنه ليس حماراً كاملاً، مجرد فك حمار، و لكنه فى يد شمشون إستطاع أن يقتل ألف رجل. و هكذا الخادم هو مجرد إنسان ضعيف، و لكنه فى يد الله يصنع المعجزات. من كان يصدق أن بطرس صياد السمك الذى أنكر السيد المسيح هو نفسه بطرس الرسول الذى آمن بسبب عظة واحدة منه ثلاثة آلاف نفس؟
إن الله لا يريد الأقوياء ليعمل من خلالهم، و لكنه يقول لنا "بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء. واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الاقوياء. واختار الله ادنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود. لكي لا يفتخر كل ذي جسد امامه. حتى كما هو مكتوب من افتخر فليفتخر بالرب." (1كو 1: 27-31).
لهذا نقول فى سفر صموئيل "قسيّ الجبابرة انحطمت، والضعفاء تمنطقوا بالبأس." (1صم 2: 4)، و يقول لنا الله مع بولس الرسول ""قوتى فى الضعف تكمل." (2كو 12: 9)، و نصرخ مع يوئيل النبى قائلين "ليقل الضعيف بطل أنا" (يوئيل 3: 10)
و لكن حينما نتقوى بالسيد المسيح لا يجب أن نظن فى أنفسنا شيئاً، و إننا خدام أقوياء، و أن المخدومين ضعفاء، و ننظر لهم نظرة متعالية أو دونية حينما يخطئون، أو يسألون بجهل، أو حينما يخطئ شماس صغير فى القداس، أو فى القراءات. لذلك يقول لنا بولس الرسول "فيجب علينا نحن الاقوياء ان نحتمل اضعاف الضعفاء." (رو 15: 1). و لقد طبق هذه الآية بولس الرسول على نفسه و قال "صرت للضعفاء كضعيف لاربح الضعفاء ... لأربح على كل حال قوم" (1كو 9: 22).
إن هذا هو هدف الخدمة "أن نربح على كل حال قوم"، نربحهم فى المسيح و للمسيح. و لذلك يطلب منا بولس الرسول قائلاً "ونطلب اليكم ايها الاخوة انذروا الذين بلا ترتيب. شجعوا صغار النفوس. اسندوا الضعفاء. تأنوا على الجميع." (1 تس 5: 14).
ثانياً: الحمار و التعليم
يقول الله فى سفر إشعياء معاتباً شعبه "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه. اما اسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم" (إش 1: 3). إن الحمار يعرف أين معلف صاحبه، و أما شعب إسرائيل فلا يعرف أين صاحبه من الجهل. لذلك يقول لنا الوحى الالهى فى سفر هوشع "قد هلك شعبى من عدم المعرفة." (هو 4: 6).
و التعليم هو الوسيلة التى نستطيع أن ننأى بواسطتها بالمخدومين من الاثم كما نقرأ فى الدسقولية "إمحوا الذنب بالتعليم"، و هذه الكلمة يكررها قداسة البابا شنودة الثالث كثيراً، فهو بحق استطاع أن يحارب كل الأفكار الهدامة بتعليم شعبه و المواظبة على الوعظ و كتابة الكتب التى تشرح لنا أسس عقيدتنا المسيحية الأرثوذوكسية، و تناقش كل فكر خاطئ و تفنده و ترصد أخطاءه. لذلك أصبح الشعب على وعى كامل، و أصبح متعمقاً فى اللاهوت و العقيدة و الطقوس و أصبح ليس من السهل الضحك عليهم بأى كلمات جوفاء. و هذا هو ما يجب أن يكون عليه الخادم، فيمحو ذنوب مخدوميه بالاهتمام بتعليمهم، و الاستماع إلى أسئلتهم مهما كانت تافهة من وجهة نظره، و الاجابة عليهم بكل حماس مهما كان السؤال. إن السيد المسيح جلس ليلة كاملة مع نيقوديوس يشرح له سر المعمودية. أفنبخل نحن أن نجيب مخدومينا؟
و لكن ...
ينبهنا الوحى الالهى على فم بولس الرسول قائلاً "لاحظ نفسك و التعليم" (1تي 4: 16)، و يستكمل التحذير فى رسالة يعقوب إذ يقول ""لا تكونوا معلّمين كثيرين يا اخوتي عالمين اننا نأخذ دينونة اعظم. لاننا في اشياء كثيرة نعثر جميعنا." (يع 3: 1، 2). يجب أن نلاحظ أنفسنا و لا نعلم بشئ نجهله، و لم ندرسه دراسة كافية، و لا ننشر تعاليم خاطئة، أو هرطقات، و لا نقوم بالتأليف حتى لا نظهر أمام المخدوم بمظهر من لا يعرف. فنهتم بشكلنا و لا نهتم بخطورة التعليم الذى سننقله للمخدوم. إن التعليم هو أخطر خدمة يقوم بها الخادم، و تكمن خطورتها فى أن خطأ بسيط فى كلمة واحدة قد يهدم عقيدتنا المسيحية بالكامل، و تم تشويشها فى ذهن المخدوم.
لذلك يا إخوتى يجب علينا أن نهتم بتعليم المخدومين، و لكن لا يفيض الاناء إلا إذا إمتلأ و لذلك يجب أن نمتلئ أولاً قبل أن نقوم بتعليم الآخرين. و ليس عيباً أن أعتذر بعدم معرفتى و أن أطلب مهلة لكى أبحث عن إجابة سؤال للمخدوم. بل أفضل من ذلك أن أصطحب المخدوم إلى مكتبة الكنيسة، أو أقرب جهاز كمبيوتر و أعلمه كيف أقوم بالبحث عن إجابة السؤال.
كما لا يجب أن تعلم بما ليس فيك لأنك ستكون فاقد المصداقية مع نفسك و مع المخدوم. فالخادم الذى لا يصلى لا يستطيع أن يتكلم عن حياة الصلاة، و الخادم الغضوب لا يستطيع أن يتكلم عن التسامح و الوداعة، و هكذا.
تحضرنى قصة خادم إصطحب صديق له يحضر كلمة يلقيها متكلم شاب يدعى سامى كامل فى كنيسة بالاسكندرية. و كانت الكلمة عن الوداعة. و بعد الاجتماع سأل الخادم صديقه إن كانت الكلمة أعجبته. فقال الصديق إن المتكلم ما كان يجب أن يتكلم. كان يكفيه أن يقف صامتاً فقط لأنه هو نفسه عبارة عن عظة حية عن الوداعة. و حضراتكم تعرفون أن سامى كامل صار فيما بعد أبونا القديس بيشوى كامل.
ثالثا: الحمار و خدمة الكلمة
هنا يأتى دور حمارة بلعام التى أنطقها الله ليوبخ بها بلعام الذى عميت عيناه عن رؤية ملاك الرب الذى وقف فى طريقه و هو ذاهب لمقابلة بالاق. فنقرأ فى الكتاب المقدس "ففتح الرب فم الاتان فقالت لبلعام: ماذا صنعت بك حتى ضربتني الآن ثلاث دفعات؟ فقال بلعام للاتان: لانك ازدريت بي. لو كان في يدي سيف لكنت الآن قد قتلتك. فقالت الاتان لبلعام: ألست انا اتانك التي ركبت عليها منذ وجودك الى هذا اليوم؟ هل تعوّدت ان افعل بك هكذا؟ فقال لا. ثم كشف الرب عن عيني بلعام فابصر ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده فخرّ ساجدا على وجهه." (عد 22: 28-31)
إن الله قادر أن يقوم بتوصيل كلمته إلى الشعب الشغوف أن يسمع كلمة الله حتى لو على لسان حيوان أعجم مثل الحمار. فلا تخف إن طلب منك أمين الخدمة أن تقوم بتحضير الكلمة فى الخدمة و ثق تماماً أن الله الذى أنطق حمارة بلعام قادر أيضاً أن يرسل كلمته على فمك. قد تقوم إن فمى غير طاهر و ناطق بالأباطيل. هذا ليس شأنك لأن الله سيرسل ملاكه ليطهر شفتيك بجمر نار قبل أن تتكلم كلمة الله التى سيرسلها لشعبه على فمك.
إن قداسة الكاهن ليس سبباً فى تحول الخبز و الخمر إلى جسد و دم حقيقيين للمسيح إلهنا، بل الروح القدس الحال عليهما هو الذى يحولهما. و الله لن يرسل كلمته على فمك من أجل قداستك، و لكن من أجل الناس الشغوفين المنتظرين كلمة الله.
فقط أطلب من الله أن يرسل كلمته عند إنفتاح الفم، و لا تخف.
و لكن هذا يقودنا للنقطة الرابعة و الأخيرة.
رابعاً: الحمار و الاتضاع
فى الحقيقة لم أر حماراً أكثر إتضاعاً من هذا الحمار الذى ركبه السيد المسيح عند دخوله أور شليم. يقول لنا مار متى البشير "و الجمع الاكثر فرشوا ثيابهم في الطريق. وآخرون قطعوا اغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق." (مت 21:
. هل ظن الحمار لوهلة أن الناس تفرش القصان و سعف النخيل تحت حوافره من أجله هو، أم يعرف تماماً إنها من أجل المسيح الذى يحمله هو؟
قد يداخل خادم الكلمة شعور بالكبر أو المجد الباطل إن تكلم الله على لسانه، و ينسى أن الله حينما يريد أن يرسل كلمته فهو قادر أن يرسلها حتى لو على فم حمار. هو يظن أن الناس تفرش القمصان له و تشكره على الكلمة العظيمة التى ألقاها، و ينسى أنه يحمل المسيح و أن الروح القدس هو الذى أرسل هذه الكلمات على فمه. و مثل هذا قال عنه آباء الكنيسة من لا يحتمل الاهانة، لا يحتمل الكرامة.
مثل هذا لا يحتمل أن يكون هناك خادم محبوباً أكثر منه، ولا يحتمل ألا يتحمس الناس لكلمته، و لا يتحمل ألا يشكره الناس بعد إلقاء الكلمة، و لا يتحمل أن يكون هناك متكلم أفضل منه أو متكلم آخر على الاطلاق. لا يستطيع أن يقول مع يوحنا المعمدان "ينبغي ان ذلك يزيد واني انا انقص" (يو 3: 30). إنه ظن نفسه شيئاً. إن الحمار الذى حمل السيد المسيح و دخل به أور شليم لو كان ظن فى نفسه شيئاً لكن رمح فرحاً و قفز و أوقع السيد المسيح من فوقه. و لكن الحمار كان يعرف تماماً أن الناس تفرش القمصان و سعف النخيل تحت حوافره من أجل رب المجد الجالس فوقه. من أجل إنه يحمل السيد المسيح. من أجل إنه قام بتوصيل السيد المسيح كلمة الله المتجسدة لهم. فهل يوجد خدام عقليته لا ترتقى لعقلية الحمار ليفهم حتى و إن مدحه الناس فهو كمن يفرشون القمصان تحت أقدام الحمار من أجل السيد المسيح الراكب فوقه؟ إن مثل هذا الخادم لا يقدم السيد المسيح و طريق الخلاص للمخدومين، و إنما يقدم نفسه. فهل نظن أن مثل هذا الخادم تكون خدمته مقبولة أمام الله؟
إن أبونا بيشوى كامل حينما عرف أن أحد أبناءه يرفض الصلاة فى كنيسته ببلدته بعدما غادر الاسكندرية لأنه لم يجد من هو مثل أبونا بيشوى فى كنيسته ببلدته، سافر له أبونا بيشوى و طلب منه السماح و المغفرة لأن أبونا بيشوى إعتبر أن هذه خدمة فاشلة لأن الشاب تعلق بأبونا بيشوى و ليس بالسيد المسيح.
و هذا هو أمل الخادم، أن يتعلق المخدومين بالسيد المسيح و يرتبطوا به و يحبونه حتى يستطيع أن يصل بهم إلى السماء.